لأسابيع، قيل للشعب الأمريكى إن السباق الرئاسى كان متقارباً، وإن المرشح الجمهورى دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس متعادلان فى جميع الولايات المتأرجحة، وإن الأمر قد يستغرق أياماً حتى تتضح الصورة ويتم الإعلان عن الفائز.
ولكن فى الساعات التى تلت إغلاق صناديق الاقتراع وبدء فرز الأصوات، بدأ الزخم يتحول بشكل مطرد فى اتجاه ترامب، تاركاً الولايات المتحدة أمام أعتاب ولاية جديدة لترامب، وتاركاً العالم أمام تساؤل مهم: ماذا تعنى ولاية ترامب الثانية؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، فرجل الأعمال الأمريكى، الذى كان يفتقر إلى الخبرة والتاريخ السياسى فى ولايته الأولى، يمتلك اليوم الكثير من الخبرة السياسية التى تجعله يخوض تجربته الثانية فى البيت الأبيض بمزيد من الثبات والعمق.
ووسط عالم يتأرجح بين الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، والتوتّر المتصاعد فى بحر الصين الجنوبى، والتهديدات الإرهابية التى عادت من جديد لكى تُهدد العالم، وأزمة اقتصادية عالمية لا تزال تحاصر العالم الذى لم يتعافَ بعد من آثار جائحة كوفيد، يبقى الصراع الممتد فى الشرق الأوسط هو القضية الأكثر أهمية بالنسبة للعالم العربى.
الولاية الأولى
من المهم أن نتذكر أين كانت سياسة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط عندما غادر ترامب منصبه فى يناير 2021. كانت إدارة ترامب قد توسّطت فى الاتفاق الأكثر شمولاً منذ اتفاقات أوسلو فى التسعينات، والذى تضمّن تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين، وتُوجت بمراسم التوقيع فى البيت الأبيض فى 15 سبتمبر 2020.
وسرعان ما رحّبت الأطراف الموقّعة على ما يُسمى باتفاقات إبراهيم بانضمام المغرب والسودان إلى الاتفاقيات.
وضعت إدارة ترامب بالفعل خطة سلام فلسطينية - إسرائيلية من خلال صهر ترامب، جاريد كوشنر. وقد تم الكشف عن الخطة رسمياً فى مؤتمر صحفى عُقد فى البيت الأبيض عام 2020، وشارك فيه ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. (كان الفلسطينيون قد رفضوا الخطة فى وقت سابق). وقد وصفت الخطة كياناً فلسطينياً مبتوراً، يفتقر إلى جوانب مهمة من السيادة، ويتوقف إلى حد كبير على الظروف السياسية والأمنية الإسرائيلية، وكذلك الإشراف العسكرى. لم تحظَ الخطة بقبول كبير لدى أىٍّ من الأطراف، وغرقت دون أن تترك أثراً.
حسب تقرير المركز العربى فى واشنطن فإن «خطة كوشنر للسلام» تشكل مخططاً مستتراً لتكريس السيطرة الإسرائيلية على الأراضى الفلسطينية المحتلة وسكانها الفلسطينيين، وهو انطباع تُؤكده إجراءات أخرى اتخذتها إدارة ترامب. ففى عام 2017، اعترف ترامب رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبعد ذلك بعامين، أعلن ترامب سيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة التى احتلتها من سوريا عام 1967.
وأغلقت الإدارة الأمريكية القنصلية العامة للولايات المتحدة فى القدس الشرقية (التى كانت بمثابة حلقة الوصل شبه الرسمية مع الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية)، وأنشأت سفارة أمريكية جديدة على قطعة من «الأرض الحرام» السابقة فى القدس الغربية، والتى من المفترض أن تكون خاضعة لترسيم الحدود كجزء من تسوية سلمية شاملة.
وضعت هذه الإجراءات مجتمعة ختم الموافقة الأمريكية على سياسات الاحتلال الإسرائيلى، وتخلّت عن عقود من سياسة السلام الأمريكية فى الشرق الأوسط، التى أصرت على أن الولايات المتحدة لن تتخذ أى إجراء يضر بنتيجة مفاوضات الوضع النهائى.
وفى ما يتعلق بإيران أيضاً، غيّرت إدارة ترامب السياسة الأمريكية بشكل جذرى. فى عام 2018، تخلى ترامب رسمياً عن الاتفاق النووى الإيرانى متعدّد الأطراف، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. كما بدّل ترامب السياسة الأمريكية السابقة تجاه إيران بسياسة «الضغط الأقصى».
شهدت الولاية الأولى لترامب تصاعد الأعمال العدائية بين الولايات المتحدة وإيران، كما اشتدت الحرب بالوكالة بين واشنطن وطهران، والتى دارت رحاها من خلال الضربات ضد المنشآت العسكرية الأمريكية فى المنطقة والضربات المضادة التى قامت بها الولايات المتحدة، بما فى ذلك اغتيال قائد فيلق القدس الإيرانى قاسم سليمانى فى غارة بطائرة مسيّرة فى بغداد عام 2020.
وفى الوقت نفسه، سرّعت إيران من وتيرة برنامجها لإنتاج المزيد من اليورانيوم عالى التخصيب، وهو أمر ضرورى لإنتاج الأسلحة النووية، وهى الآن أقرب إلى امتلاك القدرة على صُنع أسلحة نووية من أى وقت مضى.
فى العالم العربى، اتسمت سياسة ترامب بالتأرجح على حد وصف تقرير المركز العربى فى واشنطن. فى عام 2017، توجّه إلى الرياض فى أول زيارة له إلى الخارج، للتأكيد على علاقته بالعالم العربى، لكن ترامب أثبت أنه لا يُمكن التنبؤ بتصرفاته. فقد قُوبل هجوم سبتمبر 2019 على منشآت النفط السعودية بلامبالاة عامة من ترامب، الذى أعلن أنه «مستعد للرد الحركى»، لكنه ادّعى لاحقاً أنه لا يريد الحرب.
الولاية الثانية
ستكون إدارة ترامب الثانية مختلفة قليلاً، ولكن بدون مجموعة من مسئولى الأمن القومى المحترمين الذين سيملأون الإدارة، والذين احترق الكثير منهم فى ولاية ترامب الأولى، من المرجّح أن يكون فريق ترامب الجديد مزوداً بموظفين من الدرجة الثانية، وموالين فى المقام الأول للرئيس واحتياجاته السياسية. ومن شأن «حدس ترامب» أن يُحدّد نبرة وسياسة الإدارة الجديدة.
حسب تقرير المركز العربى فى واشنطن قد يمنح «ترامب» الضوء الأخضر لإسرائيل لحل صراعاتها بالطريقة التى تراها مناسبة.
لكن من المهم أن نتذكر أنه دعا نتنياهو إلى إنهاء الحرب على غزة بسرعة، وفى محادثة خاصة مع رئيس الوزراء فى يوليو، يزعم أنه أصرّ على أن يتم ذلك قبل تنصيبه.
قد يجادل البعض بأن هذا الطلب جزء من حملة انتخابية تخاطب الناخبين الرافضين للحرب، ولكن فى النهاية، سوف يسعى ترامب إلى تأكيد أهم إنجاز حقّقه فى ولايته الأولى، وهو اتفاقية السلام من خلال وضع حد للحرب فى غزة ولبنان. وبحكم تفكيره العملى فإن نجاحه فى وقف الحرب فى غزة سوف يمثل انتصاراً ضخماً على إدارة بايدن الديمقراطية التى فشلت فى تحقيق هذا الهدف على مدار أكثر من عام.
كما يشير تقرير المركز العربى إلى أن ترامب سيُشجع الدول العربية على زيادة المساعدات المالية والإنسانية، لكنه سيقاوم أىّ تدخل أمريكى أعمق فى حكم القطاع أو مستقبله الاقتصادى. فى هذا السياق من المهم التأكيد أن ترامب ليس لديه اهتمام كبير بالحكم الفلسطينى فى حد ذاته.
والأخطر أن المقترحات المطروحة داخل النظام السياسى الإسرائيلى لإعادة احتلال غزة، أو حتى إقامة مستوطنات جديدة هناك قد تجد آذاناً مصغية فى المكتب البيضاوى.
من الأصعب تحليل سياسة إدارة ترامب تجاه إيران. وهنا أيضاً، من المرجّح أن يستمع ترامب إلى نتنياهو الذى يدعو إلى مقاربة أمريكية صارمة تجاه إيران وبرنامجها النووى، بما فى ذلك إمكانية القيام بعمل عسكرى.
قد يجادل رئيس الوزراء الإسرائيلى، الذى يبدو أنه حريص على استمرار وتيرة الحرب دون توقف، بأن الحروب فى غزة ولبنان، فضلاً عن الضربات الإسرائيلية على إيران نفسها، قد ألحقت انتكاسة خطيرة بالنظام الإيرانى، وخلقت فرصة للدبلوماسية القسرية.
هذا صحيح بما فيه الكفاية، ولكن ما إذا كان ترامب سيقبل تماماً بمثل هذه الحجة فهو أمرٌ مثير للتساؤل. ففى ولايته الأولى، كان متردّداً بشأن ما إذا كان سيُطبّق العصا أو الجزرة، أو كليهما معاً، على النظام الإيرانى.
وعلاوة على ذلك، فإن انتخاب رئيس إيرانى جديد فى الصيف الماضى يُصرح برغبته فى الانخراط مع الغرب، قد يعطيه مهلة، ففى حملته الانتخابية، قال ترامب إنه لا يزال منفتحاً على عقد صفقة شاملة مع إيران، رغم الاتهامات بأن عملاء إيرانيين حاولوا اختراق حملته الانتخابية، فى محاولة للتأثير على الانتخابات.
وبالنظر إلى الدوافع المتقلبة التى حكمت سياسة إدارة ترامب الأولى تجاه إيران، فإن الدوافع المتضاربة قد تحكم أيضاً سياسة إدارة ترامب الثانية. ويبدو من المرجّح أن العداء العلنى تجاه النظام الإيرانى، ولكن الاستعداد الخاص لعقد صفقة مع إيران، سيُميز على الأرجح ولاية أخرى لترامب. وهذا يعد بخلق توتر وتناقض فى السياسة الأمريكية تجاه إيران فى المستقبل.
تبقى طبيعة ترامب الزئبقية بمثابة عامل قلق لا يُمكن تجاهله بالنسبة للدول العربية.
من المتوقع أن يستمر «ترامب» فى اتباع نهج الحفاظ على العلاقات القوية مع الدول العربية، مع التركيز على مبيعات الأسلحة والصفقات التجارية والتعاون الأمنى ومكافحة الإرهاب.
ومن شأن الطبيعة الزئبقية لسياسة ترامب غير المنظمة فى الشرق الأوسط أن تخلق فرصاً جديدة لروسيا والصين، اللتين ستبحثان عن الاستفادة من أى فراغ فى السياسة الأمريكية. وقد اكتسبت السياسة العربية فى السنوات الأخيرة استقلالية لافتة للنظر جعلتها تعمل على توطيد العلاقات مع كل القوى العالمية لضمان الحفاظ على مصالحها.
فى حين أن ما يُسمى بـ«باكس أمريكانا» أو «السلام الأمريكى» فى الشرق الأوسط -نظام الترتيبات العسكرية والدبلوماسية التى حكمت العلاقات الأمنية الإقليمية بشكل فضفاض لمدة 70 عاماً تقريباً- قد يكون فى طريقه إلى التلاشى، إلا أنه لا يزال موجوداً فى الوقت الحالى.
إن جزءاً مما ميّز «ترامب» عن الرؤساء الأمريكيين الكثيرين السابقين هو الطريقة التى اتبعها فى التعامل مع الدبلوماسية بطريقة مشابهة للطريقة التى تعامل بها مع إمبراطوريته التجارية. وعلى حد تعبير كتابه الأكثر مبيعاً، تم ذلك من خلال «فن الصفقة».
فعندما تولى منصب الرئيس الأمريكى لأول مرة انسحب على الفور من المعاهدات الدولية التى اعتبرها صفقات تجارية سيئة، مثل اتفاقية باريس للمناخ واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا).
وقال «ترامب» فى أكتوبر 2018: «لطالما أكدت أن نافتا ربما كانت أسوأ صفقة تجارية على الإطلاق».
لم يختلف هذا النهج فى الشرق الأوسط، حيث نظرت إدارته إلى المنطقة من منظور موجّه نحو السوق، فى حين وظّف أيضاً صقوراً من صقور السياسة مثل جون بولتون، مستشار ترامب السابق للأمن القومى، ومايك بومبيو، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الذى تحول إلى كبير الدبلوماسيين.
ومع ذلك، وعلى غرار الكثير من مشروعاته التجارية التى أفلس بعضها ونجح البعض الآخر، تأرجحت خطواته فى السياسة الخارجية بين النجاح والفشل.
لكن المؤكد أن الولاية الثانية لترامب ستكون مختلفة تماماً عن ولايته الأولى، على الأقل يمتلك «ترامب» الخبرة السياسية التى كان يفتقدها فى المرة الأولى.
إخلاء مسؤولية إن الموقع يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
0 تعليق