قبل عشر سنوات تقريبًا قرأت كتاب «جدل العقل- حوارات آخر القرن» للمفكر والروائى الأيرلندى ريتشارد كيرنى، بترجمة إلياس فركوح وحنان شرايخة، وكان عبارة عن مجموعة حوارات أجراها «كيرنى» مع عدد من الشخصيات والرموز الثقافية المعروفة فى نهاية القرن العشرين فى كل المجالات، مثل جوليا كريستفيا، إدوارد سعيد، نعوم تشومسكى، بورخيس، ودريدا.. وغيرهم، كان مشغولًا بمستقبل أوروبا ومكانتها فى العالم دون أن يتجاهل تاريخها الاستعمارى الثقيل الذى مثّل ملمحًا رئيسًا فى عيون الآخرين.
«كيرنى» المحاور نجح بسبب ثقافته العميقة فى رسم جدارية لأفكار رموز التفكير من الذين شعروا بالخطر الذى يتهدد البشرية بسبب ازدواجية وغطرسة الغرب. قبل أيام قرأت له فى سياق آخر عملًا مختلفًا تحت عنوان «أهمية القصص»، ترجمة العراقى هاشم كاطع لازم، وهو بحث عن أهمية حكاية الحكايات، استعار فى مقدمته مقولة إسحاق داينسن «أن تكون إنسانًا يعنى أن لديك قصة ترويها للآخرين». هو يرى أن وظيفة القصص الأولى تتمثل فى الهروب من طبيعة الحياة الرتيبة، ثم إن الحياة طويلة بطبيعتها، وإن الكثير من الوقت فى الغالب يمر فيما بين الأحداث المهمة الجارية، أثناء هذا الوقت نمارس نشاطات مألوفة، مثل غسل الصحون وتنظيف الأسنان والذهاب إلى العمل، وهى فعاليات لا تتصف بالمتعة. القصة تعمل على تقويض تلك الأفعال واستبعاد الجوانب المملة منها، وبإمكاننا من خلال القصة أن نتظاهر بكوننا أشخاصًا آخرين أو نذهب إلى أماكن أخرى دون أن نتحمل أى مخاطر أو تكلفة مادية، وبإمكاننا أيضًا أن نفعل المستحيل مثل السفر عبر الزمن أو استكشاف الكون.
القصص تعيننا على تمضية الوقت مع الشعور بالتسلية، مما يمكّن القصص من تأدية وظائف أخرى لعل من أهمها الوظيفة التعليمية، فالقصص تعين على تعلم الحقائق بسرعة ويسر، حيث أظهرت البحوث العلمية أننا نحصل على الحقائق بيسر وسرعة فى حال سردها بشكل قصصى.
يرى الأيرلندى المولود سنة ١٩٥٤، أيضًا، أننا نستخدم القصص للتأمل وطرح الأسئلة ومن ثم العمل على إيجاد الحلول، ترى هل ثمة تطور لما يمكن أن يحصل فى حال اتصالنا مع شعب غريب؟ القصص فى مثل هذا الحال تساعدنا على استكشاف كل الاحتمالات. وما النتائج المتوقعة فى حال عمدت إلى خداع زوجتك؟! القصص فى الواقع تعيننا على فهم مثل هذا الموقف الافتراضى أيضًا، وحين نروى قصصًا عن أنفسنا فلا بد أن نتخيل كل جوانب مستقبلنا المحتملة، ومن ثم يحدونا الأمل بأن نختار أفضل تلك الجوانب، كما أننا نستخدم القصص للإجابة عن الأسئلة الكبيرة التى يتعين الإجابة عنها: لماذا أنا موجود هنا؟ ما هدف الحياة؟ وما الذى تعنيه إنسانية الإنسان؟ لا شك أن القصص تضفى النظام والمعنى على فوضى الحياة وعشوائيتها.
وللقصة بداية ووسط ونهاية، والنهاية تهدف إلى إشباع رغبة القارئ لأننا لا نعرف الكيفية التى تنتهى فى ضوئها قصتنا الشخصية، لا سيما أن حياة البشر تمثل فى الواقع بحثًا عن قصتنا الخاصة بنا.
وأخيرًا تسعى القصص إلى ربط الناس بعضهم مع البعض الآخر، فرغم أننا نعلم تمامًا أنها تستمد مادتها من الخيال فإنها تثير ردود أفعال عاطفية قوية داخلنا. وحين نستغرق فى قراءة قصة معينة فإن بمقدورنا أن نرى العالم من حولنا من خلال عينى شخص آخر، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نطلع على حال صبى فقير فى مدينة دلهى أو فتاة مستعبدة فى ولاية فرجينيا فى القرن السابع عشر أو حتى ملكة بريطانيا. من هنا فإن مشاركة تجاربنا الشخصية من خلال القصص تمكننا من التواصل مع بعضنا بعضًا وتوثيق علاقاتنا، وإن المشاركة من خلال القصص تعيننا على العيش فى سلام.
وبسبب القدرات التى تميز القصص عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى فإنها تصبح أدوات فاعلة للغاية، وهى بذلك يمكن أن تستخدم لإقناع الناس وتغيير المجتمعات نحو الأفضل أو الأسوأ! من هنا يغدو النقد القصصى أمرًا جوهريًا أيضًا، فنقاشاتنا المتواصلة حول القصص، سواء حصل ذلك عبر الإنترنت أو من خلال الجلوس فى مكان بارد، تشكل جزءًا أساسيًا لعملية السرد القصصى، وهى عملية لا تقل شأنًا عن القصص ذاتها، ولأهمية مثل هذا الأمر يتعين علينا على الدوام أن نعمد إلى النظر بريبة إلى أولئك الذين يسعون للتضييق على قصصنا أو مناقشاتنا ذات الصلة بتلك القصص. ويتساءل فى النهاية: ترى ما الذى يمكن أن يحصل لو أننا قابلنا شعبًا غريبًا لا يعرف شيئًا عن القصص؟ هل بمقدورنا التواصل معه أو سرد أى قصة عليه؟!
0 تعليق