في خضم النقاشات حول قضية الصحراء المغربية تبرز العديد من المغالطات التاريخية التي تحتاج إلى تفنيد وتوضيح.
الإعلامي المغربي زهير الواسيني، المقيم في إيطاليا، يتطرق إلى خطأين شائعين يتداولهما البعض، حتى بين المغاربة، حول أسباب انسحاب إسبانيا من الصحراء وسبب تقسيمها مع موريتانيا.
يتناول الواسيني، في مقال خاص بهسبريس، هذه المفاهيم المغلوطة من منظور تاريخي وسياسي دقيق، ويضع الأمور في نصابها، مسلطًا الضوء على دور الملك الراحل الحسن الثاني ودهائه في استغلال ظروف المرحلة الانتقالية التي عاشتها إسبانيا آنذاك.
ويستعرض المقال كيف قاد الحسن الثاني “المسيرة الخضراء” بهدف إكراه مدريد على التفاوض، معتمدًا على الدبلوماسية الذكية دون اللجوء إلى الحرب، إضافة إلى الحسابات الجيوسياسية التي جعلته يتخذ قرار تقسيم إقليم الصحراء مع موريتانيا لطمأنة جيرانه.
وبينما توضح الأحداث التاريخية كيف صمد المغرب في وجه التحديات يدعو الواسيني إلى إعادة النظر في فهم القضية ضمن السياق الدولي المعاصر، بعيدًا عن التفسيرات السطحية التي تسعى إلى تبرير مواقف عفا عنها الزمن.
المقال
هناك خطآن شائعان في قضية الصحراء يتداولهما البعض، حتى من المغاربة، سواء بوعي أو دون قصد. الخطأ الأول يتمثل في القول إن إسبانيا قررت الانسحاب من الصحراء تاركة المجال للمغرب للدخول إليها. أما الخطأ الثاني فيتعلق بتفسير سبب تقسيم الصحراء مع موريتانيا. لقد حان الوقت للتصدي لهذا النوع من التضليل وعدم الدقة في نقل الحقائق، ومحاولة استخدامها للدفاع عن أطروحات تجاوزها الزمن والتاريخ.
خروج إسبانيا من الصحراء جاء نتيجة حكمة الراحل الحسن الثاني وفهمه العميق الظروف التاريخية التي كانت تمر بها الجارة الشمالية، إذ كان فرانكو على فراش الموت، وامتدت فترة احتضاره لأكثر من شهرين. هذا الوضع سمح للمغرب بالتحرك بدهاء، مستفيدًا من المرحلة الانتقالية التي مرت بها إسبانيا، التي كانت تنتقل من نظام ديكتاتوري إلى آخر ديمقراطي؛ ولم يكن بوسعها بناء نظام جديد وهي تواجه حربًا مع المغرب.
الملك الحسن الثاني، رحمه الله، أدرك جيدًا طبيعة اللحظة التي كانت تعيشها إسبانيا، واستند إلى ذلك ليعلن عن مسيرة سلمية هدفها الحقيقي إجبار مدريد على الدخول في مفاوضات، وهو ما تحقق بنجاح، إذ استطاع العاهل المغربي استعادة أرض بلاده مستغلًا التحالفات الدولية والإقليمية في فترة الحرب الباردة، إذ اختار المغرب الدفاع عن مصالحه بالتحالف مع الغرب في مواجهة الاتحاد السوفييتي.
وعليه فإن القول إن إسبانيا قررت ترك الصحراء بمحض إرادتها بعيد عن الحقيقة، لأن الدول الاستعمارية عبر التاريخ لم تتخلَّ عن أراضٍ تحتلها طوعًا. وينبغي التأكيد هنا أن الطريقة التي حرر بها المغرب صحراءه تعكس عبقرية حقيقية، سواء من حيث الأسلوب أو الهدف؛ فقد استطاع استرداد أرضه دون إراقة الدماء، مكتفيًا بالدبلوماسية الذكية.
وتجدر الإشارة إلى أن المغرب كان سجل قضيته في الأمم المتحدة منذ الستينيات، واستمر في متابعة تطوراتها بفهم دقيق لموازين القوى التي كانت تميل لصالح إسبانيا، فلم يندفع في حروب غير مدروسة، بل انتظر اللحظة المناسبة ولعب أوراقه بذكاء كبير.
وفي ما يتعلق بتقسيم الصحراء مع موريتانيا فإن المسألة أكثر تعقيدًا وتتطلب فهم المرحلة التاريخية التي كان يمر بها العالم حينها، إضافة إلى الحسابات الجيوسياسية التي كان يتقنها الملك الراحل الحسن الثاني. كان الملك مدركًا تمامًا مخاوف جيرانه من استرداد المغرب الصحراء، خاصة أنه تأخر طويلًا في الاعتراف بموريتانيا، إذ كان يعتبرها جزءًا من أراضيه. وبطبيعة الحال لم يكن من السهل بالنسبة لنواكشوط، وربما لم يكن في مصلحتها، أن تكون لها حدود مع دولة تراها جزءًا من الإمبراطورية الشريفية.
وتفهّم الملك الحسن الثاني هذه المخاوف المشروعة، وقرر تقسيم الأرض بهدف طمأنة موريتانيا، إذ كان هدفه الأساسي تجنب فتح جبهة عداء جديدة مع موريتانيا تضاف إلى التوتر الموجود على حدوده الشرقية.
ومع مرور الوقت جاءت الأحداث في صالح المغرب، فعدم قدرة موريتانيا على الصمود أمام هجمات البوليساريو المدعومة من الجزائر، ليبيا وكوبا، دفع الرباط إلى استعادة الجزء المتبقي من الصحراء، ما أعاد الوضع إلى طبيعته بشروط واضحة: عدم السماح بقيام أي دولة تفصل المغرب عن موريتانيا وعمقه الإفريقي. هذا الشرط يوضح سبب رفض المغرب أي اقتراح يهم تقسيم الصحراء، وهو اقتراح يدعمه النظام الجزائري كثيرًا.
وعندما دعا الملك الراحل الحسن الثاني شعبه إلى “قسم المسيرة” بعدم التفريط في الصحراء كان ذلك نابعًا من إدراكه العميق أن أعداء المغرب لن يتوقفوا عن محاولاتهم لعزل البلاد؛ ولذا شدد في خطبه مرارًا على أهمية التصدي لكل من يسعى إلى فصل المملكة عن محيطها الإفريقي. الوقوف عند هذه النقطة يفسر الكثير من الخيارات الإستراتيجية التي اتخذها المغرب في السنوات الأخيرة، ويبرز التحديات المستقبلية التي تواجه استقرار المنطقة، خاصة في ظل التهديدات الإقليمية، مثل هشاشة الأنظمة في دول الساحل.
من هنا يجب فهم ما يحدث في الصحراء واستمرار الصراع بين المغرب والجزائر ضمن سياق السياسة الدولية، وليس من خلال شعارات الدفاع عن حقوق الشعوب في الاستقلال وغيرها من المبررات التي لم تعد تقنع إلا القليل. وضع هذا الصراع في إطاره الحقيقي يساعد على فهم الواقع والعمل على إيجاد حلول عملية. وأول خطوة في هذا المسار هي الاعتراف بأن الصحراء تمثل عمق المغرب التاريخي والجيوسياسي، وعلى الجزائر أن تعلن بشكل رسمي ما يصرح به قادتها في الخفاء بأن هذه القضية بالنسبة لهم أيضًا مسألة أمن قومي. حينها يمكن مناقشة الصراع بعقلانية.
وفي انتظار ذلك يواصل المغرب الدفاع عن مصالحه بفعالية، كما اتضح خلال زيارة الرئيس الفرنسي إلى الرباط.
0 تعليق