لماذا إضراب المحامين؟

0 تعليق ارسل طباعة

إن إعلان جمعية هيئات المحامين بالمغرب في أول سابقة من نوعها في التاريخ إضرابا مفتوحا دون سقف زمني، ومقاطعة شاملة للمحاكم والإجراءات والصناديق من يوم الجمعة فاتح نونبر إلى إشعار آخر، يعود بالأساس إلى النكسة والردة الدستورية لمشروع قانون المسطرة المدنية المصادق عليه من طرف مجلس النواب، وهو قيد المناقشة بمجلس المستشارين، ومخالفته لأبسط الحقوق الدستورية للمواطن، وبالتالي اعتبار المغرب كدولة دستورية ديمقراطية نص دستورها على أن الخيار الديمقراطي غير قابل لأي مراجعة، وهكذا فنضال المحامين اليوم ليس نضالا فئويا وإنما نضالا حقوقيا ووطنيا خالصا من أجل المصلحة العامة للمتقاضين، لكون المحامين ظلوا على الدوام في طليعة المدافعين عن المشروع المجتمعي لحقوق الإنسان والتنمية، وقدموا الغالي والنفيس في إطار استقلال المغرب والدفاع عن مغرب المؤسسات والحقوق والحرية، ولا أدل على ذلك مسلسل الإنصاف والمصالحة والدفاع عن استقلالية القضاء.

وفي هذا الإطار، نعتبر أن مكانة أي دولة ضمن الدول الديمقراطية والحضارية تقاس باحترام قواعد دولة الحق والقانون وصون مبدأ المشروعية، الذي أساسه سيادة القانون ومساواة المواطنين والإدارة أمامه دون تمييز واحترام حق المواطنين في التقاضي والولوج للقضاء دون أي عوائق أو تقييدات وضمان قواعد المحاكمة العادلة وكفالة حقوق الدفاع.

تأكيدا لذلك نصت المادة 118 من الدستور على أن “حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون”.

ويستخلص من وضوح النص أن حق التقاضي مضمون، أي مصون ومحترم وغير قابل للنقاش. وبالتالي، فإن كل تقييد كيفما كان نوعه لهذا الحق غير مقبول ومخالف للدستور، لأن المشرع لم يجعله قاعدة عامة فقط بل قاعدة جوهرية ومن النظام العام لا يقبل أي افتئات عليها أو الخروج عنها تحت أي مبرر كان طالما لم يجعل ذلك تحت صيغة وفقا للقانون أو ما شابه كما استعمل في غيره من النصوص والمقتضيات.

وهذا المقتضى في أصله هو تجسيد للاتفاقيات الدولية التي كانت حاسمة في تأكيد سمو الحق في التقاضي واكتسابه صبغة النظام العام الذي لا يقبل أي إنقاص أو تقييد أو استثناء كيفما كان نوعه.

وهكذا نصت المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أيَّة أعمال تَنتهك الحقوقَ الأساسيةَ التي يمنحها إيَّاه الدستورُ أو القانونُ”، كما نصت المادة 10 من الإعلان نفسه على أن “لكلِّ إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحقُّ في أن تَنظر قضيتَه محكمةٌ مستقلَّةٌ ومحايدةٌ، نظرًا مُنصفًا وعلنيًّا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أيَّة تهمة جزائية تُوجَّه إليه”.

المقتضى نفسه أكدته المادة 14 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، بحيث جاء فيها أن:

“- الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون…

– كل شخص أدين بجريمة حق اللجوء، وفقا للقانون، إلى محكمة أعلى كيما تعيد النظر في قرار إدانته وفى العقاب الذي حكم به عليه”.

تبعا لذلك، يتأكد عدم دستورية أي تعديل يمس بحق المواطنين في الولوج للعدالة على جميع درجاتها وعدم جواز انتهاك مبدأ المساواة بين المواطنين فيما بينهم وإحداث أي تمييز أو فرقة بينهم في الاحتماء بالقضاء لحماية حقوقهم والدفاع عنها، وكذا عدم جواز إحداث أي تمييز بين المواطنين والإدارة في الإجراءات القضائية أو في تنفيذ الأحكام.

وبالاطلاع وتفحص مشروع قانون المسطرة المدنية المصادق عليه من طرف مجلس النواب، نجده يخالف جملة وتفصيلا المواثيق الدولية والمقتضيات الدستورية في هذا الباب كما مر بنا، ويمكن إجمال المقتضيات غير الدستورية في هذا المشروع التي تشكل فضائح تشريعية وحقوقية بكل المقاييس، والتي تمس بحق المواطنين في اللجوء للقضاء وتحدث تمييزا بينهم بحسب الظروف المالية أو الشخصية أو المركز الاجتماعي أو المالي، ناهيك عن مخالفة قواعد المساواة وعدم التمييز بين المواطنين والإدارة باستحداث قواعد تمييزية للإدارة تجاه المواطنين دون ضابط موضوعي، مما سيشكل انتكاسة دستورية تحرم المواطنين من اللجوء لقاضيهم الطبيعي، (يمكن إجمالها) في:

– فرض غرامات ثقيلة على ما سمي بالتقاضي بسوء النية، مع أن الأصل هو حسن النية، مما يبين أن هناك نظرة متخلفة تجاه حق التقاضي كحق دستوري مضمون وحق حضاري يمنع من اقتضاء الحقوق بالنفس أو العنف. وبالتالي، فإن واضعي التشريع يعتبرون لجوء المواطنين للقضاء ترف أو تعسف يتعين مقاومته عوض حمايته، وهو اتجاه غريب عن كل النظم القانونية أو الدولية، لأنه نتاج الأنظمة الشمولية التي لا تحبذ حق التقاضي وتفضل إغلاق المحاكم وتتعامل مع المواطنين كطفيليين على العدالة وليس مواطنين أصحاب حق وجب احترام كرامتهم وصون حقوقهم في اللجوء الطبيعي للعدالة دون أي عائق يذكر.

– فرض غرامات ثقيلة على إثارة أي دفع بعدم القبول يعتبره القاضي أو المحكمة غير وجيه.

– تصوير المحكمة أو القاضي كعدو للمتقاضي وليس حكما، إذ نصب كخصم لكل متقاض بإمكانية إثارته تلقائيا للتعسف في رفع الدعوى، في حين إن المطلوب افتراض حياد القاضي وحماية الحياد وليس خلق الصراعات والشبهات والتشنجات بين المتقاضين والقضاء.

– فرض غرامات على ممارسة طعون خاصة كإعادة النظر والتعرض الخارج عن الخصومة وتجريح القضاة ومخاصمتهم، مما يفسر الرغبة في مواصلة التضييق على اللجوء للقضاء ودفع المواطنين إلى عدم التفكير في ممارسة المساطر القضائية وكأنها جريمة وليس حقا واجب الحماية.

– إحداث حصانة غير دستورية لبعض الأحكام والقرارات من الاستئناف والنقض ومنع الطعن فيها بحسب مبالغ معينة، وهو تمييز للمتقاضين فيما بينهم حسب مركزهم المالي أو الاجتماعي والاقتصادي، وهذا أمر مخالف للدستور والاتفاقيات الدولية.

– إحداث حصانة غير دستورية للقرارات القضائية الاستئنافية الباتة في شرعية القرارات الإدانة بالمنع من نقضها ضدا على مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 118 من الدستور الذي يمنع تحصين أي قرار إداري من الطعن.

– إحداث حصانة غير دستورية للطعن في قرار القاضي بتغريم المتقاضي عن الإخلال بواجب احترام المحكمة، بحيث يعتبر القرار نهائيا وغير قابل للطعن بصرف النظر عن عدم مشروعيته.

– إحداث استثناءات غير دستورية لقاعدة أن النقض يوقف التنفيذ، بحيث إن الدولة وإداراتها العمومية والجماعات المحلية وشركات الدولة لا يمكنها تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة عليها لفائدة المواطنين إلا بعد صدور قرار محكمة النقض، في حين إن القرارات الصادرة ضدها لفائدة المواطنين تنفذ بمجرد صدور القرارات الاستئنافية أو الأحكام الابتدائية غير المطعون فيها، وهذا مس بقاعدة المساواة بين الإدارة والمواطنين وفقا للفصل السادس من الدستور، وإحداث تمييز غير مقبول.

– إلزام المتقاضين بتنصيب المحامي في المساطر الكتابية في الوقت الذي تعتبر الإدارة في حل من الاستعانة بمحام، وهذا خرق لحقوق الدفاع المضمونة دستوريا ولمبدأ المساواة بين المواطنين والإدارة.

– منح النيابة العامة سلطة إلغاء الأحكام خارج القواعد الدستورية ودون تقيد بقاعدتي الأجل أو الحضور في الخصومة في خرق سافر لدولة الحق والقانون والمشروعية، وفي انتهاك للفصل 126 من الدستور القاضي بإلزامية تنفيذ الأحكام، رغم أن النيابة العامة تملك ممارسة طعون مماثلة لا شائبة حولها، وهي الطعن لفائدة القانون، والطعن بإلغاء الأحكام لتجاوز سلطاتهم، وهي طعون كافية لحماية النظام العام.

– منح الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية صلاحية طلب إلغاء الأحكام خارج القواعد الدستورية، لأن مبدأ استقلال القضاء وفقا للفصل 107 من الدستور يحظر على الرئيس التدخل في عمل القضاة وممارسة أي طعن قضائي كيفما كان نوعه، لأن رئاسته للمجلس الأعلى للسلطة القضائية تفترض توفير الضمانات الدستورية للقضاة والمتقاضين وليس التنصب كطرف في الدعاوى والطعون، والجمع بين صفة الطرف والحكم، أي خصما وحكما في الوقت نفسه في أول سابقة من نوعها.

الخلاصة أننا أمام تشريع الأمية والجهل، تشريع لا يفقه قواعد قانونية ولا دستورية ولا أبجديات التشريع ويمتح من التعسف والعداء للمواطن، وهو بذلك يهين كرامة المواطنين ويهدر حرياتهم وينتهك أسس دولة الحق والقانون التي أساسها الشرعية وسيادة القانون وليس تبخيس حقوق المواطنين واعتبارهم متطفلين على العدالة بتشريعات غير حضارية وبليدة ولا علاقة لها بالمكتسبات الحقوقية التي راكمها المغرب عبر التاريخ.

محام بهيئة الرباط

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق