قراءة فى تاريخ فلسطين: هذه الأرض أرضى «٧»

0 تعليق ارسل طباعة

فى عام ١٩٦٠ تم إنتاج الفيلم السينمائى الأمريكى الشهير «الخروج»، من بطولة النجم الأمريكى بول نيومان، الذى تناول فترة الانتداب البريطانى فى أرض فلسطين، وأظهر بدايات الصراع بين اليهود والعرب، منذ وعد بلفور حتى إعلان دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، ولعل شهرة هذا الفيلم «الضعيف فنيًا» تعود إلى حصوله على جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى للملحن الأمريكى النمساوى الأصل أرنست جولد، عن الأغنية الرئيسية لهذا الفيلم، التى حملت عنوان «This land is mine» أو «هذه الأرض أرضى»، والتى يقول مطلعها: «هذه الأرض أرضى، فقد منحها الله لى». وتنتهى بقوله «وحتى أموت ستظل هذه الأرض أرضى».

وقد حققت هذه الأغنية شهرة واسعة فى حقبة الستينيات، والسبعينيات من القرن الماضى، وتمت إعادة توزيعها أكثر من مرة، لكن المفاجأة أن النسخة الأكثر انتشارًا لهذه الأغنية، كانت أغنية رسوم متحركة صنعتها فنانة أمريكية وناشطة ثقافية تُدعى «نينا بالى»، وأصدرتها عام ٢٠١٢، وحققت هذه النسخة نجاحًا مدويًا، ووصل عدد المشاهدات لها على «يوتيوب» إلى أكثر من عشرة ملايين مشاهدة فى غضون بضعة أشهر، وسر نجاح هذه النسخة الكرتونية هو قيام المخرجة بسرد التاريخ الدموى لأرض فلسطين منذ فجر التاريخ حتى التاريخ المعاصر، بصورة كاريكاتيرية ساخرة، وبنفس لحن وكلمات الأغنية الأصلية، ثم أنهت الأغنية بنهاية غير متوقعة، حيث يكتشف المشاهد أن من يغنى هو ملك الموت نفسه، فيُرى فى نهاية الأغنية مرتديًا رداءه الأسود، وباسطًا جناحيه فوق الأرض المقدسة، وهو يصرخ قائلًا: «هذه الأرض أرضى»! 

وبعيدًا عن السخرية المؤلمة فى نسخة نينا بالى، تبقى كلمات الأغنية، مثيرة للاهتمام، ويظل السؤال عمّن له الحق فى أن يغنى «هذه الأرض أرضى» قائمًا، وهذا ما سنتعرض له فى هذا المقال من وجهة نظر تاريخية وأثرية، بعيدًا عن النصوص الدينية، من خلال طرح تساؤل عمّن هم السكان الأصليون للأرض المقدسة؟ 

إن أول مجتمع بشرى ثبت وجوده حفريًا فى هذه المنطقة يعود إلى الألف العاشر قبل الميلاد، وهو ما يعرف باسم مجتمع «الثقافة النطوفية»، نسبة إلى وادى نطوف شمال غرب القدس، حيث عُثر فى مغارة «شقبا»، الموجودة فى إحدى قرى رام الله، على آثار حضارة تنتمى إلى نهايات العصر الحجرى الحديث، وتضم كنوزًا أثرية هائلة، تكشف الكثير من خصائص الحياة فى تلك الفترة، التى شهدت تحولًا فى حياة الإنسان من الصيد إلى الزراعة، وكذلك بدايات تدجين الحيوانات وبناء المساكن والمقابر، وتعد الثقافة النطوفية هى البذرة التى ظهرت منها حضارة أكبر وأوسع بلغت أوج عظمتها فى الألف الثالث قبل الميلاد، وهى «الحضارة الكنعانية»، حيث تشير الدراسة التى قام بها عالم الجينات البريطانى «مارك هابر»، ونُشرت فى مجلة العلوم، إلى أن ٥٠٪ من الجينات التى تم تحليلها من حفريات بشرية من حقبة الكنعانيين تعود إلى سكان محليين ومزارعين عاشوا فى هذه الأرض منذ الألف العاشر قبل الميلاد، أى فى فترة الثقافة النطوفية، وأن النسبة الباقية تعود إلى مهاجرين أتوا من منطقة بلاد الرافدين، واختلطوا بالسكان المحليين، وقد أسس الكنعانيون حضارة متكاملة بدأت فى الألف الرابع قبل الميلاد واستمرت حتى منتصف الألف الثانى قبل الميلاد، فبنوا عددًا من المدن الكبرى، مثل أرواد وصيدا وصور، والجبيل، ومجدو، واشتغلوا فى الزراعة والصيد والتجارة، وكانت لديهم لغة مكتوبة ومقروءة، اشتقت منها اللغة الفينيقية واللغة العبرية لاحقًا، كما كانت لديهم معبودات خاصة بهم، لعل أشهرها الرب «إيل» رب الأرباب، وهو نفس اسم الرب فى الديانة اليهودية. 

ولقد تعرضت الدولة الكنعانية لأزمات كبرى، أهمها الهجمات المتكررة من الدولة المصرية من جهة الجنوب، وكذلك هجمات الحيثيين من جهة الشمال، فضلًا عن حدوث قحط شديد فى بدايات الألف الثانى قبل الميلاد، أدى إلى ضعف الدولة، وانقسامها إلى عدد من الدويلات الصغيرة، أهمها الدولة الفينيقية على سواحل لبنان الحالية، وإمارة اليبوسيين فى مدينة القدس الحالية، ونتيجة هذا الضعف، وقع أغلب البلاد الكنعانية تحت سيطرة الدولة المصرية الحديثة، واستمر النفوذ المصرى فى أرض كنعان قرابة ثلاثة قرون حتى عام ١٢٠٠ق.م. 

ومع بدايات القرن الثانى عشر قبل الميلاد، وتحديدًا فى عصر الملك رمسيس الثالث، وقعت حادثة كبرى سجلتها جداريات مدينة هابو فى مصر، وهى حدوث إغارة على السواحل الشمالية لمصر من قِبل أعداد مهولة من شعوب البحر الذين أتوا من السواحل الجنوبية لأوروبا وقبرص، وآسيا الوسطى، إما بهدف الإغارة، أو الاستيطان، وفى جميع الأحوال، تصدت لهم الدولة المصرية بقيادة رمسيس الثالث، الذى سجل انتصاراته على جدارية كبيرة فى معبد مدينة هابو قائلًا: «الآن البلدان الشمالية التى كانت فى جزرها، ترتعش فى أجسادها، فبعد أن اخترقوا قنوات مصب النيل، توقفت خياشيمهم عن التنفس، حين خرج جلالته عليهم كالزوبعة، وقاتل فى ساحة المعركة وأدخل الخوف والرعب منه إلى أجسادهم، حتى انقلبت قواربهم وغرقوا فى أماكنهم، وتبعثرت أسلحتهم فى البحر». وما يهمنا فى هذه الحادثة أن عددًا كبيرًا من شعوب البحر، قد فروا من مصر إلى شرق المتوسط واستقروا فى منطقة غزة، وعسقلان وأشدود وعرفوا باسم «الفليستيون» أو «الفليستينيون»، كما عرفت المنطقة التى سكنوها باسم بيليستا أو فيليستا، وثبت ذكر هذا الاسم فى عصر الملكة حتشبسوت واستمر كذلك فى العصر اليونانى والرومانى، ومنه اشتقت كلمة فلسطين، التى صارت تطلق على عموم تلك الأرض حتى عام ١٩٤٨. 

وطبقًا للتوراة، فإن دخول بنى إسرائيل إلى الأرض المقدسة كان تاليًا لدخول الفليستينيين مباشرة، وقد أسهبت التوراة فى وصف الحروب والعداء بين الجانبين، ولعل قصة شاول أو طالوت، وكذلك قصة شمشون ودليلة هى أشهر القصص التوراتية التى أكدت هذا الصراع. ويحاول اليهود دومًا الربط بين شعوب البحر «الفليستينيين» وبين الشعب الفلسطينى الحالى، لإثبات عدم الأحقية التاريخية فى الأرض، حتى وإن كان ذلك من خلال تأويل دراسات علمية بصورة خاطئة أو التدليس لتعزيز تلك الفكرة، ففى عام ٢٠١٨ نشرت مجلة «ناتشر» المرموقة بحثًا بعنوان «حامض نووى قديم يثبت أصول الفليستينين فى التوراة»، حيث تم تحليل الحامض النووى لرفات حفرية بشرية من أشدود تعود للقرن الثانى عشر قبل الميلاد، وأثبت التحليل أنها تنتمى إلى شعوب جنوب أوروبا، فثارت الأوساط العلمية، واحتفت الدوائر الإسرائيلية بنتائج الدراسة التى أكدت عدم أحقية الفلسطينيين فى الأرض، ووجه الخلط فى هذا الموضوع أنه لا علاقة بالشعب الفلسطينى الحالى بشعوب البحر الفليستينيين القدماء، تمامًا مثلما لا توجد علاقة بين اليهود الحاليين والعبرانيين القدامى، فالفلسطينيون الحاليون هم مزيج من أجناس وشعوب مختلفة عاشت على هذه الأرض منذ آلاف السنين، أما اليهود الحاليون فهم مزيج من أجناس مختلفة تم استقدامهم إلى هذه الأرض منذ بضعة عقود، ونعود إلى الأدلة التاريخية، ونتساءل: هل يوجد أى إثبات حفرى أو أركيولوجى يثبت وجود دولة يهودية فى هذه الأرض على مدار عشرة آلاف عام هى عمر هذه الأرض منذ فجر التاريخ حتى عام ١٩٤٨؟ والحقيقة أنه لا يوجد أى دليل على وجود دولة يهودية مستقلة ومؤثرة قامت على هذه الأرض التى هيمنت عليها إمبراطوريات كبرى على مدار تاريخها، مثل مصر وبابل وآشور والفرس والروم والعرب، وبالنظر إلى مملكة سليمان، التى تمثل فى الأدبيات اليهودية أكبر اتساع للوجود اليهودى فى المنطقة، رغم أن مساحتها لم تزد على ٧٠٪ من مساحة فلسطين الحالية، طبقًا للنصوص التوراتية- فإنه يمكن القول بقلب مطمئن، إنه لا يوجد دليل حفرى واحد يدل على وجودها، فبعد التنقيب فى ٣٠٠ موقع أثرى، قامت به بعثات أثرية إسرائيلية وغربية فى إسرائيل، لم يتم العثور على مخطوطة، أو عملة، أو فخارة أو جدارية تحمل اسم الملك داود أو الملك سليمان فى الوقت الذى عثرت فيه هذه الحملات على أرشيف أثرى وحفرى حافل للشعوب الأخرى التى عاشت فى تلك المنطقة، ومنها الفليستينيون المتهمون بأنهم غزاة بحر، ويعزو علماء الآثار غياب أى ذكر لوجود دولة يهودية كبرى فى السجلات الأثرية بمصر والعراق إلى إحدى فرضيتين، فإما أن تكون هذه الدولة أسطورة مزعومة، وهو ما أيده عالم الآثار رونى ريك، حين قال: «إن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا حقيقة فى تلك القصة التى بنت لهما مملكة من ورق»، أو أن يكون هؤلاء الناس قد عاشوا كرعايا تحت حكم الإمبراطوريات الأخرى، وإنهم كانوا بدرجة من البدائية والضعف لم تمسح لهم بترك أثر واحد يستطيع أن يقاوم الزمن، وهو الأقرب إلى المنطق. 

وللحديث بقية 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق